المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - أركان الإيمان |
إن الذي يسمع الخبر الموثوق في كتاب ربنا أو فيما صح من سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ثم بعد ذلك يكذبه أو يجحده، قد وقع في الكفر، يقول ابن القيم: "فأما كفر التكذيب فهو اعتقاد...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من الكفر، كان إذا أصبح وإذا أمسى يقول ثلاثا: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت"، يستعيذ من الكفر وهو الذي عصم الله قلبه من الزيغ، وعصم الله عقله من الهوى، وعصم الله لسانه من الباطل واللغو والفحش، ومع ذلك يستعيذ من الكفر! فأحرى بنا وأجدر أن نستعيذ بالله منه إذا أصبحنا وإذا أمسينا.
الكفر ضد الإيمان؛ سمي بذلك لأنَّه تغطية للحق، وهو على أنواع مقابلة لأنواع الإيمان التي هي قول بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح؛ فإذا انتفى التصديق الذي هو قول القلب، فسوف يكون هذا من الكفر هو كفر التكذيب؛ لأنه انتفى تصديق القلب.
وكفر التكذيب: هو اعتقاد كذب الرسل، أَو ادعاء أَن الرسول جاء بخلاف الحق، أَو مَن ادعى أَن الله حرم شيئا أَو أَحلَهُ مع علمه أَن ذلك خلاف أَمر الله ونهيه.
فإذا علم الحق بقلبه لكنه كتمه وأنكره بلسانه مع العلم بصدقه، فهذا نوع آخر من الكفر، هو كفر الجحود: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النمل:14]، قال ابن سعدي: "ليس جحدهم مستنداً إلى الشك والريب، وإنما جحدهم مع علمهم وتيقنهم بصحتها ظلماً منهم لحق ربهم ولأنفسهم، وعلوا على الحق وعلى العباد وعلى الانقياد للرسل".
ومن الآيات الصريحة في التفريق بين الجحد والتكذيب قوله -تعالى-: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)[الأنعام: 33]؛ فالآية نفت عنهم التكذيب وأثبتت الجحود مما يدل على عدم تلازمها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذه الآية: "فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفياً عنهم، فعلم أنه نفى عنهم تكذيب القلب"، ومن هنا يمكن القول: أن التكذيب أعم من الجحود؛ إذ الجحود يكون في اللسان مع تصديق القلب، والكذب يكون في القلب واللسان، فكل جحود هو تكذيب وليس كل تكذيب جحوداً.
ومن الفروق التي يذكرها بعض العلماء بين الجحد والتكذيب، أن الجحد يقترن بالعناد في كثير من الأحيان، قال الخفاجي: "الفرق بين التكذيب والجحد أن الأول مطلق الإنكار، والثاني: الإنكار لما يعلم حقيقته عناداً"، وذكر الإمام ابن القيم من أنواع الكفر: "كفر جحود وعناد وقصد مخالفة الحق وغالب ما يقع هذا النوع فيمن له رياسة علمية في قومه من الكفار أو رياسة سلطانية".
قال ابن القيم ر-حمه الله-: "وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص؛ فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، وإرساله الرسول، والخاص المقيد: أن يجحد فرضا من فروض الإسلام، أو تحريم محرَّم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرا أخبر الله به".
عباد الله: كفرُ التكذيب من أنواع الكفر الأكبر وهو الإنكار بالقلب واللسان لأصل من أصول الدين، أو حكم، أو خبر ثابت مما هو معلوم من الدين بالضرورة بعد المعرفة، فالإيمان قائم على التصديق؛ فإن انتفى تصديق القلب فهذا كفر التكذيب، فإذا كذب الإنسان بخبر جاء في القرآن أو ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كفر، قال -سبحانه-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ)[العنكبوت:68].
وقال الله -تعالى-: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)[يونس:39]، وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[النمل:83 - 84].
فإذا كتم الإنسان الحق مع العلم به وبصدقه فهذا كفر الجحود، يعني أن قلبه يعلم بالحق لكنه يكتمه ويجحده، كما قال عز وجل في فرعون وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[النمل:14].
وقال -تعالى- في بيان ذلك: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)[الإسراء: 102]؛ أي إنك تعلم يا فرعون أن المنزل لهذه الآيات هو رب السموات والأرض بصائر منه لعباده فإنكارك ليس على الحقيقة بل ترويجا على قومك واستخفافاً لهم.
ومنه كفر اليهود؛ حيث جحدوا نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكتموا أمره، وكتموا صفاته الموجودة في كتبهم، على الرغم من معرفتهم له كمعرفتهم لأبنائهم، يقول عز وجل عنهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة: 146]، ويقول -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)[البقرة: 89] .
أيها الإخوة: إن الذي يسمع الخبر الموثوق في كتاب ربنا أو فيما صح من سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ثم بعد ذلك يكذبه أو يجحده، قد وقع في الكفر، يقول ابن القيم: "فأما كفر التكذيب فهو اعتقاد كذب الرسل"، وقال القاضي عياض: "وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقينا بالنقل المتواتر من فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ووقع الإجماع المتصل عليه. .. كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس".
ويقول الإمام النووي -رحمه الله-: "إن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك فإن استمر حكم بكفره"، يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله -: "ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح. فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل"، وقال الإمام ابن بطة -رحمه الله-: "فكل من ترك شيئاً من الفرائض التي فرضها الله في كتابه أو أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سننه -على سبيل الجحود لها والتكذيب بها- فهو كافر بين الكفر".
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، ومن تبعه، وبعد:
أيها المسلمون: هناك كفر وجحود قد يقع حتى من المسلم، ذلك هو كفر النعم وجحودها، وهذا النوع لا يكون إلا من قلة الإيمان وضعفه، فنعم الله -تعالى- علينا تستوجب شكر المنعم سبحانه وعدم كفرانه، فبالشكر تدوم وبالكفر والجحود تزول، قال -سبحانه-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
ويقول الله -تبارك وتعالى- في شأن قرية سبإ التي أنعم الله على أهلها بنعم كثيرة؛ فأعرضوا عن شكره وتخلوْا عن عبادته: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 15 - 17].
عباد الله: ومن جحود النعمة عدم شكر من جعله الله سبباً فيها، عن النّعمان بن بشير -رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر النّاس لم يشكر اللّه، والتّحدّث بنعمة اللّه شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب"(رواه أحمد وصححه الألباني).
ومن صور هذا الجحود: المرأة التي تجحد فضل زوجها وكرمه، جاء في الصحيحين من حديث زينب -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمِ ارَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ" قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: "يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوِ احْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ".
ومن صوره: الجحود والمماطلة في رد الدين وعدم الوفاء به، وهو من أكل أموال الناس بالباطل، عن أبي هريرة -رضيَ الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ"(متّفقٌ عليه)، قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "ومع الأسف؛ الآن تجد كثيراً من الناس عليه الدين؛ وهو قادر على الوفاء، ولكنه يماطل والعياذ بالله، وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، أنه قال: "مطل الغني ظلم"، وأعلم أن الدين ليس كما يفهمه الناس؛ هو الذي يأخذ سلعة بثمن أكثر من ثمنها، الدين كل ما ثبت في الذمة، فهو دين حتى القرض -السلف- حتى إيجار البيت، حتى أجرة السيارة، أي شيءٍ يثبت في ذمتك فهو دين؛ عليك أن تبادر بوفائه ما دام حالاً"(شرح رياض الصالحين).
عباد الله: ما أجملَ عاقبة الشكر والاعتراف بالنعم، وما أسوأ عاقبة الجحود وكفران النعم، فالجزاء من جنس العمل، وقد قال ربنا –سبحانه-: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)[الإسراء: 7]، وقال عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].
فاتقوا الله -عباد الله- واشكروه على نعمه، واعترفوا له بفضله وإنعامه، ووظفوا ما أنعم به عليكم فيما يرضيه عنكم، فذلكم خير لكم في دنياكم وفي أخراكم.
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).