الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ذم الله -سبحانه وتعالى- هؤلاء الإمعات الذين لا رأي لهم ولا استقلال، ولا يفكرون بعقولهم، ولا يستفيدون منها في البحث عن الحق وأتباعه، وكل ما يهمهم هو اتباع الوجهة التي توجه إليها فلان، والسير خلف الراية التي سار خلفها علان، فهم متبعون لكل ناعق، يجرون وراء كل داعي بلا روية، ولا اتزان، ولا تفكير
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أوجدنا من العدم، وجعل أمتنا خير الأمم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ميَّزَنا بالعقل والفهم، وندب أصحاب العقول إلى إعمال عقولهم، وحثهم على التفكر في المخلوقات التي تحيط بهم، ونهاهم عن التقليد والتبعية وما يضرهم.
والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل من عقل وفهم، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن ديننا الإسلامي الحنيف يربي أتباعه المتبعين له على الإبداع وقوة الشخصية، والبعد عن التقليد وذوبان الشخصية، فالإسلام لا يريد الرجل الإمعة المقلد للغير، الفاقد لشخصيته، المسلّم عقله لعقول الآخرين، وإنما يريد الرجل الفطن المتميز بعقله، المُستسلم للحق، المتبع له ولو كان وحده.
يقول عبد الله بْن مَسْعُود -رضي الله عنه-: "لَا يكن أحدكم إمعة، يَقُول: أنا مَعَ النَّاس، ليوطن أحدكم نَفسه على أن يُؤمن وَلَو كفر النَّاس" [المعجم الكبير]؛ فالإمعة إذن هو الّذي لا رأي له، فهو يتابع كلّ أحد.
لقد ذم الله -سبحانه وتعالى- هؤلاء الإمعات الذين لا رأي لهم ولا استقلال، ولا يفكرون بعقولهم، ولا يستفيدون منها في البحث عن الحق وأتباعه، وكل ما يهمهم هو اتباع الوجهة التي توجه إليها فلان، والسير خلف الراية التي سار خلفها علان، فهم متبعون لكل ناعق، يجرون وراء كل داعي بلا روية، ولا اتزان، ولا تفكير.
يقول الله -سبحانه وتعالى- في وصفهم وذمهم: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [البقرة:171]، فشبههم الله -سبحانه وتعالى- بالبهائم التي ينعق عليها صاحبها أو راعيها، ولكن ليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها، وكذلك هم، فإنهم يسمعون الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة، ولكنهم لا يفقهونه فقهاً صحيحاً ينتفعون به، فلهذا كانوا صماً لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول، وعمياً لا ينظرون نظر اعتبار وادكار، وبكما فلا يتكلمون بما فيه خير لهم.
والسبب في ذلك كله أنه ليس لهم عقل صحيح يميزون به، ولا تفكير متجرد يحكمون بموجبه، فهم أسفه من السفهاء، وأجهل من الجهلاء؛ لأنهم لا عقل لهم يوجههم ويرشدهم؛ فهل بعد هذا الذم من ذم لهذا الصنف، صنف الإمعات المقلدين؟
عباد الله: إن الله -جل جلاله- خلق الإنسان وجعل الإبداع والتفكير كامناً فيه، إلا أنه بحاجة إلى من يحفزه وينشطه، ولهذا أمرنا الله -سبحانه وتعالى- بالتفكير والتجديد والتنقيب، ونهانا عن التقليد والنمطية والضمور، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:76].
فهذا مثل لرجلين: أحدهما رجل سلبي، خامل، أبكم، لا يحرك ولا يتحرك، ولا يؤثر ولا يتأثر، لا يقدر على شيء، ولا يريد أن يعمل شيئاً، فهو كَلّ على مولاه، وعبء على سيده، وحمل ثقيل على أهله ومجتمعه؛ لأنه إمعة صفر، أينما تضعه فلن ينفع، ولن يأتي منه خير، فهل يستوي من هذه صفته مع صاحب الهمة، الطَّموح، الفعّال، الغيور، الذي يأمر بالعدل، ويحارب الفساد والظلم، فهو صاحب شخصية عظيمة، تمشي على الطريق المستقيم، وتبحث بنفسها عن الحق وتتبعه، ولا ترضى أن تكون إمعة مقلدة، بل وتقود غيرها لذلك الحق؟ (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:76].
أيها الناس: إن هناك آيات كثيرة جداً في القرآن الكريم يذم الله -سبحانه وتعالى- فيها مواقف الإمعات، المتبعين للآخرين دون تمييز أو موازنة، قال -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [المائدة:104]، وقوله أيضاً: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة:170]، وقال: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف:23].
فهؤلاء هم الإمعة الذين إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساءوا أساءوا، فلما أساء آباؤهم ولم يحسنوا تبعوهم في إساءاتهم، وقلدوهم في سيئاتهم، ومشوا على طريقتهم، فضلّوا كما ضل آباؤهم، وكفروا كما كفروا، والسبب هو التقليد الأعمى، فهم مجرد نسخات لهم، وإلا لو أعملوا عقولهم، ونظروا ببصيرتهم، ولم يسلّموا عقولهم لغيرهم لما وقعوا في الكفر والضلال، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10-11].
هكذا يقولون بكل أسى وندم: لو كنا أعملنا عقولنا، وميزنا بين الهدى والضلال، والخير والشر، والحسن والقبيح لما وقعنا في السعير، التي تستعر في الأبدان، وتطلع على الأفئدة، ولكنهم الإمعات.
إن هذه الظاهرة السيئة ظاهرة الشخصية الإمعة موجودة اليوم في واقعنا بكثرة، ومنتشرة في مجتمعنا انتشار النار في الهشيم على كل المستويات، فتجد من كبرائنا وحكامنا ومسؤولينا من هو إمعة لغيره، راكع لهم، مستسلم لقوانينهم، آخذ لأفكارهم وآرائهم بدون تمحيص ولا تدقيق، يتبعهم كما تتبع الذبيحة جزارها مع أنها ترى السكين بيده، وهكذا هؤلاء يتبعون ألد الأعداء، وينفذون على الأمة قرارات اليهود والنصارى، في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره، ولو وقفوا مع أنفسهم وتركوا هذه التبعية والإمعية لما أصابهم هذا الذل والهوان لأعداء الله وأعداء دينه.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب:64-68].
ومن الإمعات بعض المنبهرين بالغرب، المعجبين بكل ما لديهم من غث وسمين، حيث يرون أن هؤلاء الغربيين هم المثل الأعلى، والقمة الأسمى في كل شيء، ويتمنون أن لو تبع المسلمون خطاهم، وأخذوا نهجهم، وتقلدوا تقاليدهم.
فهؤلاء رويبضات إمعات، قد استهواهم المكر الغربي، وأفسد عقولهم، وفطرهم الاستعمار الثقافي، ولو وقفوا مع أنفسهم وقفة صدق، وتمعنوا جيداً لوجدوا أن سعادة المسلمين، وراحتهم النفسية، وانشراحهم القلبي بما معهم من الإيمان والإسلام يعدل كل ما لدى الغرب من حضارة دنيوية، وأمور مادية.
وما تخلّف المسلمون وصاروا في آخر الركب إلا لأنهم لم يعملوا بهذا الدين العظيم الذي يحثهم على إعمال العقل، وتفعيل الفكر، وينهاهم عن التبعية والتقليد الأعمى الذي يعطل الإدراك، ويقضي على روح العقل والإبداع، ويَحرم الإنسان من العلم والمعرفة، وهذا ما وقع فيه المسلمون اليوم بسبب بعدهم عن دينهم، وضعف التزامهم به، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً" رواه البخاري.
فهؤلاء هم من هذه الحثالات الإمعات الذين يتمسكون بالرديء والقشور، ويتركون اللب والأصول، فلهذا لا يرفع الله لهم قدراً، ولا يقيم لهم وزناً، ولا يبالي بهم بالة.
ومن الإمعات أولئك المقلدون للغرب في لباسهم، وحركاتهم، ومشياتهم، وقصات شعرهم، يتشبهون بهم، ويحاكون صورهم ليصبحوا نسخاً منهم، وما فعلوا هذا إلا لأنهم يشعرون بالنقص وضعف الشخصية، فغاب العقل، وضاع الاتزان، وتلاشت الثوابت والقيم، وماتت الرجولة والأصالة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! كل هذا بسبب التقليد، وانتشار ظاهرة الشخصية الإمعة.
فبدلاً من أن يتشبهوا بالأخيار الصالحين أخذوا يتشبهون بأراذل الناس وشر الخليقة، ونسوا قول النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" رواه أبو داود وصححه الألباني.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين وإمام المتقين، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
عباد الله: ومن الإمعات أولئك القوم الذين يتّبعون غيرهم على الضلالة، ويمشون خلفهم على الجهالة، ويرقصون وراءهم ببهلوانية وسذاجة، ويندفعون معهم اندفاعًا عشوائيًّا بلا هدف واضح، ولا معالم معروفة.
وترى كثيراً منهم يعلمون الحق، ويعرفون أن ما يسير عليه قومهم هو الباطل، ومع ذلك فهم مع أقوامهم على الحق والباطل، ويستميتون معهم بكل عصبية وعنجهية، يرونهم يقعون في الضلالة فيقعون مثلهم فيها، أو يعلمون أن ما يقوم به أشياخهم وكبراؤهم هو من جنس المحدثات والبدع والشركيات، ومع ذلك يؤيدونهم ويشاركونهم في بدعهم، وضلالاتهم، شعارهم:
وما أنا إلا من غزيةَ إِنْ غَوَتْ | غَوَيْتُ وإن ترشد غزيةُ أرشدِ |
فهؤلاء يجب عليهم أن يتقوا الله في أنفسهم، ويتركوا الاحتجاج بالحجج الواهية التي تجعلهم يسايرون قومهم في كل شيء، ويستصعبون الخروج عن المألوف الذي مشى عليه أئمتهم الذين يقتدون بهم، ويحرصون على القول بآرائهم، واعتقاداتهم، ويسلمون لهم تسليماً مطلقاً.
فعليهم أن يتجردوا للحق ويتعصبوا له، لا أن يتعصبوا لأشخاص ورؤوس لأنهم منهم، أو من طبقتهم، فإن هؤلاء لن يغنوا عنهم يوم القيامة شيئاً، ولن يعذروا أمام الله بمتابعتهم وتقليدهم لهم، وأخذهم بفتاويهم التي يعلمون أنها تخالف كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وسيتبرؤون منهم ويتنكرون لهم في يوم تأتي فيه كل نفس تجادل عن نفسها، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:166-167].
ومن الإمعات أولئك المساكين الذين يتبعون قرناءهم وأصدقاءهم في كل صغيرة وكبيرة، ويكونون عبيداً لهم يسيّرونهم كما يشاؤون، ويتحذونهم أدوات ينفذون بهم ما يريدون، فيعيشون أذلاء لهم، أسرى لرغباتهم وأوامرهم، لا يستطيعون التصرف إلا بإذنهم، ولا يعملون عملاً إلا بعد استشارتهم، فكأنهم صرفوا عقولهم، أو سحروا قلوبهم.
وما هذا -والله- إلا من ذل المعاصي، فإن هؤلاء لم يتحكموا فيهم هذا التحكم، ولم يسيطروا عليهم بهذه القوة، إلا لأنهم يعلمون أسرارهم، وفضائحهم، ومعاصيهم السرية والعلنية، فيهددونهم بها، ويتحكمون فيهم عبرها، ويعلمون أنهم مجرد إمعات ضعيفة لا تستطيع أن تتحرر من رق عبوديتهم وذلتهم لهم.
وصدق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ يَقُولُ: "مَنِ التَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ" رواه الترمذي.
ومن الإمعات بعض المثقفين والمنتسبين للعلم، الذين تراهم يكثرون من التلون والتناقض والاضطراب، ليس لهم سمات محددة، ولا مواقف معينة، ولا اتجاه فكري ثابت، فكل يوم بمذهب، وكل ساعة برأي جديد واتجاه آخر، لا يثبت على شيء، ولا يتمسك بشيء، وما هذا إلا لأنه لم يصدق مع الله، فلم يصدق الله معه.
ولو صدق مع الله وتحرى الحق لوفقه الله للحق وقوله، وثبته عليه، ورسّخ قدمه فيه، ولهذا يقول عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "اغْـدُ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَغْدُ إِمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ" شرح مشكل الآثار.
ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لكميل بن زياد: "يا كميل: إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والنّاس ثلاثة: فعالم ربّانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق" جامع بيان العلم/149.
أيها المسلمون: وفي الأخير أوصي نفسي وإياكم بالحزم، والاعتزاز بالنفس، والاستقلالية في الذات، وتنمية المواهب والقدرات، ومحاولة الرقي والتجديد والابتكار، والافتخار بالثوابت والقيم، والبعد كل البعد عن التبعية والروتينية والإمعية، أو السير خلف الشائعات والخرافات والشعوذات، أو الظهور بمظهر التلون والتذبذب والتقليد الأعمى، أو بتقمص شخصية الآخرين والذوبان فيهم كما يذوب الملح في الماء، فديننا يدعونا إلى معالي الأمور وأشرافها، ويكره لنا سفسافها ودنيئها.
ولن يأتي هذا- يا عباد الله- إلا إذا أخلص المرء لله، وصدق معه، والتزم بطاعته، واعتز بها، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء:66].
كما يجب على كل من أراد التخلص من الإمعية وضعف الشخصية أن يصاحب الصادقين، الرافضين للتذبذب، الذين لا يستسلمون للواقع السيئ، ولا يحبون الدوران في فلكه، ويسعون دائماً إلى تغيير أنفسهم وإصلاح مجتمعاتهم، ولا يرضخون أبداً تحت أي ظرف من الظروف إلى بيع ثوابتهم ومبادئهم، فتراهم منعزلين عن أهل القنوط والتثبيط والراكنين إلى الدنيا، اللاهثين خلف كل ناعق، المتبعين لكل جديد ولو كان سيئاً.
يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "اتبع طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين" (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116].
عباد الله: إن الإنسان عندما يكون إمعة فإنه سيكون ضعيف الشخصية، ضعيف العقل والدين، يعيش بين الناس ذليلاً تابعاً لغيره، عالة على الآخرين، منبوذاً من ربه، مكروهاً عند خلقه، كما قال الله عن أتباع فرعون المنبطحين له، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف:54].
أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يعافينا وإياكم من هذا الخلق الذميم، وأن يرزقنا وإياكم قوة الشخصية، والوقوف مع الحق، وأن يثبتنا وإياكم على الخير والهدى في زمن الشتات والنفاق، إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.