الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
و(الحَسِيب) أيضًا: بمعنى المحاسِب؛ كما يقال: الوزيرُ بمعنى المؤازِر، والنديم بمعنى المُنادِم؛ وهو بهذا المعنى من العدِّ والإحصاء؛ وعليه جاء قول الله تعالى: ﴿اْقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ اْلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبٗا﴾ [الإسراء: 14]. انظر: "شأن الدعاء" للخطابي (ص69).
ولذلك قال الراغبُ: «و(الحَسِيب) و(المحاسِب): مَن يحاسِبك، ثم يُعبَّر به عن المكافِئ بالحساب». "المفردات" (ص117).
* ومعناه: أنه سبحانه وتعالى الكافي لعباده، الذي يعطيهم حاجتَهم؛ هذا المعنى الأول.
* والمعنى الثاني: أنه تعالى الذي يُحصي أعمالَ عباده بدقةٍ، لا يفُوتُه منها شيءٌ، ثم يحاسِبهم عليها حسابًا كافيًا، مناسِبًا لها ومساوِيًا. وعلى هذا المعنى قولُه تعالى: ﴿إِنَّ اْللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: 86]؛ فهو يعني أن اللهَ جل ثناؤه يُحصي كلَّ شيء مما يَعمَل الناس - من طاعةٍ أو معصية - حتى يجازيَهم به؛ فأصلُه في هذا الموضعِ: الإحصاءُ، وقال بعضهم: إن معناه الكافي، وليس كذلك؛ لأنه لا يقال فيه: حسيبٌ عليه؛ بل يقال: حسيبُه، أو حَسْبُه. انظر: "تفسير الطبري" (5 /120).
إنَّ كِلَا المعنيَينِ لاسم (الحسيب) موجودٌ في الاصطلاح مثلما هو موجود في لغة العرب؛ فالله كافي عبادِه، والمحصي لأعمالهم ليحاسِبَهم عليها حسابًا كافيًا.
يدل على إثبات صفتَيِ (الكفاية)، و(الحساب) للهِ تعالى.
ورَد اسمُ الله (الحَسِيبُ) في كتاب الله في ثلاثةِ مواضع؛ هي:
* قوله تعالى: ﴿إِنَّ اْللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: 86]؛ قال البَغَويُّ في تفسير الآية: «أي: على كلِّ شيءٍ؛ مِن رَدِّ السلام بمثلِه، أو بأحسَنَ منه». "معالم التنزيل" (2 /258).
* وقوله: ﴿وَكَفَىٰ بِاْللَّهِ حَسِيبٗا﴾ [النساء: 6]، وفي [الأحزاب: 39].
وورَدت الصفةُ التي يدل عليها هذا الاسمُ في قولِ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه، قال: «إنَّ ناسًا كانوا يُؤخَذون بالوحيِ في عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، وإنَّ الوحيَ قد انقطَعَ، وإنَّما نأخُذُكم الآنَ بما ظهَرَ لنا مِن أعمالِكم؛ فمَن أظهَرَ لنا خيرًا أَمِنَّاه وقرَّبْناه، وليس لنا مِن سريرتِه شيءٌ؛ اللهُ يحاسِبُه في سريرتِه، ومَن أظهَرَ لنا سُوءًا لم نأمَنْهُ ولم نُصدِّقْه، وإن قال: إنَّ سريرتَه حسنةٌ». أخرجه البخاري (2641).
ثبوتُ معنى هذا الاسم بمعنى (المُحاسِب) يَرجِع إلى مقتضى صفتَينِ عظيمتين من صفاتِ الله؛ وهما: كمالُ الحِكْمة، وكمالُ العدل، وهما صفتان متلازمتان؛ ذلك أن الحِكْمةَ: وضعُ الشيء في موضعه، والظُّلْمَ: وضعُ الشيء في غير موضعه. انظر: "المقاييس" لابن فارس (2 /91)، (3 /468).
وتقريرُ ذلك: أن اللهَ عز وجل وهَب الإنسانَ العقلَ، وميَّز له طريقَ الخير والشرِّ، وأقام عليه الحُجة، ورغَّبه في فعل الخير، ورهَّبه من فعل الشر، ومعلومٌ أن الترغيبَ يكون بالثواب، والترهيب يكون بالعقاب، ومِن المُشاهَد أن الثوابَ والعقاب ليسا حاصلينِ بتمامهما في الدنيا؛ فكان لا بد من دارٍ أخرى يَتحقَّقان فيها بمقتضى الحِكْمة والعدل؛ فيثبُتُ منه: أن اللهَ مُحْصٍ لأعمال العباد، مُجازٍ لهم عليها.
* فمَن آمَن باسم (الحسيب)، رُزِق صِدْقَ التوكُّل على الله وحده في جلبِ المنافع ودفع المَضارِّ.
* ومَن عَلِمَ أن اللهَ يَحفَظ أعماله ويُحصيها عليه حتى يحاسِبَه بها يوم القيامة ويَجزِيَه عليها الجزاءَ الأوفى، حصَلتْ له مراقبةُ الله عز وجل، والخشيةُ والوَجَل منه، وصار يحاسِبُ نفسَه قبل أن يحاسِبَه اللهُ، فإن أذنَب وقصَّر اعتذَر، وإن أطاع وأحسَن شكَر، وحمَله ذلك على الاستعداد ليوم الحساب؛ بفعلِ الطاعات، واجتنابِ المعاصي.
كفايةُ الله ترعى الوجودَ كلَّه، وليس في الكون شيءٌ مستغنٍ عن الله بالأسباب، وإن كان يَظهَر أنها هي التي توصله إلى حاجاته، وأنها هي الكافية له؛ لأن اللهَ هو خالقُ هذه الأسباب ونتائجِها، وخالقُ ترتُّب النتائج على الأسباب.
يقول الغزاليُّ: «وليس في الوجود شيءٌ هو وَحْده كافٍ لشيء إلا اللهُ؛ فإنه وحده كافٍ لكل شيء، لا لبعضِ الأشياء؛ أي: هو وحده كافٍ ليحصُلَ به وجودُ الأشياء، ويدُومَ به وجودها، ويكمُلَ به وجودها.
ولا تظُنَّنَّ أنك إذا احتجتَ إلى طعامٍ وشراب، وأرضٍ وسماء وشمس، وغير ذلك: فقد احتجتَ إلى غيره، ولم يكُنْ هو حَسْبَك؛ فإنه هو الذي كفاك بخَلْقِ الطعام والشراب، والأرض والسماء؛ فهو حَسْبُك.
ولا تظُنَّنَّ أن الطفلَ الذي يحتاج إلى أمٍّ تُرضِعُه وتَتعهَّده فليس اللهُ حَسِيبَه وكافيَهُ؛ بل اللهُ حَسِيبُه وكافِيهِ؛ إذ خلَق أمَّه، وخلَق اللَّبَنَ في ثديِها، وخلَق له الهدايةَ إلى التقامه، وخلَق الشفقةَ والمودة في قلبِ الأمِّ حتى مكَّنته من الالتقام، ودَعَتْهُ إليه، وحمَلته عليه؛ فالكفايةُ إنما حصلت بهذه الأسبابِ، واللهُ تعالى وَحْده هو المتفرِّد بخَلْقِها لأجلِه». "المقصد الأسنى" (ص114).
«وأما المَلِكُ فهو الآمِر الناهي، المُعِزُّ المُذِلُّ، الذي يُصرِّفُ أمورَ عباده كما يحبُّ، ويُقلِّبُهم كما يشاء، وله مِن معنى المُلْكِ ما يستحِقُّه من الأسماء الحسنى؛ كالعزيز، الجَبَّار، الحَكَم، العظيم، الجليل، الكبير، الحَسِيب، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى المُلْكِ».
ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "بدائع الفوائد" (2 /782) بتصرُّف.
«قال تعالى: ﴿وَكَفَىٰ بِاْللَّهِ حَسِيبٗا﴾ [النساء: 6]:
في تفسيره وجوهٌ:
* الأول: أنه الكافي... وهذا الوصفُ لا يَلِيق إلا بالله.
* الثاني: أن (الحسيب) بمعنى المحاسِب.
* الثالث: أن (الحسيب) بمعنى: الشريف، والحَسَبُ: الشَّرَف... فعلى هذا، الحَسَبُ لله بمعنى: أن صفاتِ المجد والشَّرف ونعوت الكمال والجلال ليست إلا له.
وأما حظُّ العبد:
فإن فسَّرناه بالكافي: فهو أن يجتهِدَ العبد في أن يَصِيرَ سببًا في الظاهر لكفاية حاجات المحتاجين.
وإن فسَّرناه بالمُحاسِب: فنصيبُ العبد منه ما قاله عليه الصلاة والسلام: «حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا».
وإن فسَّرناه بالشَّرف: فشَرَفُ العبد ليس إلا في معرفةِ الله وطاعته».
الفَخْر الرَّازِي "لوامع البينات" (ص201-202) بتصرُّف واختصار.