فهذا أصلُه الذي يشهد به استعمالُ العرب، واستعمالُ القرآن والسُّنة.
فـ(الحَقُّ): هو الموجودُ حقيقةً، المتحقِّقُ كونُه ووجودُه وإلهيَّتُه، وكلُّ شيء صحَّ وجودُه وكَوْنُه فهو حقٌّ؛ فعندما يقول الله سبحانه: ﴿اْلْحَآقَّةُ 1 مَا اْلْحَآقَّةُ﴾ [الحاقة: 1-2]، فمعناه: أنها الكائنةُ حقًّا، لا شكَّ فيها، ولا مَدفَعَ لوقوعها، ويقال: الجَنَّة حق، والنار حق، والساعة حق؛ يراد: أنها جميعًا كائنةٌ لا محالة. انظر: "شأن الدعاء" للخطابي (ص76).
وجاء (الحَقُّ) بمعنى الواجب؛ كما في حديث أبي أيُّوبَ الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «الوِتْرُ حقٌّ على كلِّ مسلمٍ». أخرجه أبو داود (1422)، واللفظ له، والنسائي (1712) باختلاف يسير.
(الحَقُّ) اسمٌ من أسماء الله الحسنى؛ معناه: أنه سبحانه حقٌّ في ذاته وصفاته، صحيحٌ ثابتٌ، لا ريبَ فيه ولا شكَّ.
وهو وَحْدَه سبحانه واجبُ الوجود، وما سِواه جائزُ الوجود.
وهو وَحْدَه الكاملُ في الصفات والنعوت، ووجودُه من لوازم ذاته، ولا وجودَ لشيء من الأشياء إلا به؛ فهو الذي لم يَزَلْ ولا يزال متَّصِفًا بالجلال والجمال والكمال، وهو الذي قولُه حقٌّ، وفعلُه حق، ولقاؤه حق، ورسلُه وكتبه ودِينه وعبادته وَحْدَه حق، وكلُّ شيء يُنسَب إليه بحقٍّ فهو حقٌّ. ينظر: "تفسير السعدي" (5 /305).
وقال ابنُ عاشور: «ووصفُ اللهِ بأنه (الحَقُّ) وصفٌ بالمصدر؛ لإفادة تحقُّقِ اتصافِه بالحق». "التحرير والتنوير" (18 /193).
ما دلَّت عليه اللغةُ يدل على ما اصطُلِح عليه في اسمِ الله (الحَقِّ)؛ فهو الموجودُ حقيقةً، الواجبُ الوجودِ.
دلَّ على إثباتِ صفة (الوجود) لله سبحانه وتعالى.
ورَد اسمُ الله (الحَقُّ) في كتاب الله في (10) آياتٍ من القرآن الكريم؛ منها:
* قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلْحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحْيِ اْلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٞ﴾ [الحج: 6].
* قوله تعالى: ﴿فَتَعَٰلَى اْللَّهُ اْلْمَلِكُ اْلْحَقُّۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ اْلْعَرْشِ اْلْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 116].
* قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٖ يُوَفِّيهِمُ اْللَّهُ دِينَهُمُ اْلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلْحَقُّ اْلْمُبِينُ﴾ [النور: 25]. قال عبدُ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «وذلك أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ كان يشُكُّ في الدِّينِ، فيَعلَمُ يومَ القيامةِ أنَّ اللهَ هو الحَقُّ المُبِينُ». "معالم التنزيل" (6 /28).
* جاء هذا الاسمُ في حديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في وصف تهجُّد النبيِّ ﷺ:
قال رضي الله عنهما: «كان النبيُّ ﷺ إذا قامَ مِن الليلِ يَتهجَّدُ، قال: «اللهمَّ لك الحمدُ؛ أنت قَيِّمُ السمواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، ولك الحمدُ؛ لك مُلْكُ السمواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، ولك الحمدُ؛ أنت نورُ السمواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، ولك الحمدُ؛ أنت مَلِكُ السمواتِ والأرضِ، ولك الحمدُ؛ أنت الحَقُّ، ووعدُك الحَقُّ، ولقاؤُك حقٌّ، وقولُك حقٌّ، والجَنَّةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ، والنبيُّون حقٌّ، ومُحمَّدٌ ﷺ حقٌّ، والساعةُ حقٌّ، اللهم لك أسلَمْتُ، وبك آمَنْتُ، وعليك توكَّلْتُ، وإليك أنَبْتُ، وبك خاصَمْتُ، وإليك حاكَمْتُ؛ فاغفِرْ لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسرَرْتُ وما أعلَنْتُ؛ أنت المُقدِّمُ، وأنت المُؤخِّرُ، لا إلهَ إلا أنت - أو: لا إلهَ غيرُك»». أخرجه البخاري (1120).
مما يُثبِت صفةَ (الوجود) التي يدل عليها اسمُ الله (الحَقُّ): ما يُعرَف بـ(قانون السَّببية)، الذي يقول: إن شيئًا من الممكِنات لا يحدُثُ بنفسه من غيرِ شيء؛ لأنه لا يَحمِل في طبيعته السببَ الكافي لوجوده، ولا يستقِلُّ بإحداثِ شيء؛ لأنه لا يستطيع أن يَمنَحَ غيرَه شيئًا لا يَملِكه هو.
فهي حقيقةٌ بدَهية، تَتلخَّص في (افتقارِ الأثر إلى المؤثِّر)، وهي التي يُعبَّر عنها بدلالةِ الحدوث والإمكان في الذواتِ والصفات، و(الحادثُ): هو ما كان مسبوقًا بعَدَمٍ، و(الممكِن): هو ما كان قابلًا للوجود والعَدَم؛ فكلُّ حادثٍ ممكِنٍ يفتقر إلى واجبٍ بنفسه، مُحدِثٍ لا يكون هو مُحدَثًا؛ منعًا للتسلسل. "درء التعارض" لابن تيمية (3 /265).
* خلوصُ القلبِ لمحبة الله عز وجل حبًّا يفُوقُ أيَّ حبٍّ لِما سِواه؛ لأن الإنسانَ إنما يُحِب للصفاتِ الموجودة في محبوبه، وصفاتُ الله كلُّها كمالٌ؛ فكان الأحَقَّ بالتعظيم، والأحرى بتوجيه العبادة له وَحْده دون ما سِواه.
* الرِّضا والطُّمَأنينة لِما يصيب العبدَ من الابتلاءات؛ لأنه يَعلَم أنها مِن عند الله، كائنةٌ بإرادته وحِكْمته، والله حقٌّ؛ فما جاء منه حقٌّ؛ فلا عَبَثَ فيها، ولا ظُلْمَ، ولا هَوَى.
* التسليمُ التامُّ لأحكام الله وتشريعاته في خَلْقِه؛ إذ هي حقٌّ وعدلٌ؛ لأن مصدرَها الحَقُّ العدل سبحانه جل في علاه؛ فيَتحقَّق بذلك التسليمُ والإذعان، وكذا التصديقُ الكامل - الذي لا يشُوبُه ريب، ولا يخالِطُه شكٌّ - بكلِّ ما أخبَر به الله عز وجل من المُغيَّبات؛ لأنه سبحانه حقٌّ؛ فأقواله وأخباره كلُّها حقٌّ.
* الإخلاصُ لله عز وجل في كلِّ قول وعمل؛ فإن العبدَ إذا آمن بالله سبحانه معبودًا واحدًا أحدًا حقًّا، توجَّه بنيَّتِه إليه، وكانت أعماله كلُّها ابتغاءَ وجهِ الله، لا يريد بها من الناس جزاءً ولا شُكورًا، ولا ينتظر بها مدحَهم، ولا يرجو بها دفعَ ذمِّهم، ولم يكن عملُه مشُوبًا برياءٍ أو نفاق، أما مَن لم تكن هذه حالَه، فقد جَهِلَ شأنَ الناس، وشأنَ ربِّه؛ لأن مَن عرَف الناسَ أنزَلهم منازلهم، ومَن عرَف اللهَ أخلَص له أعمالَه وأقواله، وعطاءَه ومَنْعَه، وحُبَّه وبُغْضَه. انظر: "المدارج" لابن القيم (1 /83).
* وينبغي أن يرافِقَ الإخلاصَ إصلاحُ العمل؛ وذلك بموافقته أمرَ الله، وما يُحِبه ويرضاه؛ فإذا تحقَّقَ في عملِ العبد الشرطان معًا (الموافقة، والإخلاص): رُجِيَ له القَبول عند الله؛ كما قال عز وجل: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا﴾ [الكهف: 110].
إن اسمَ الله (الحَقَّ) أجَلُّ من أن تُعيَّنَ مظاهرُه في الكون والحياة؛ إذ إن كلَّ ما سِوى الله مظهرٌ من مظاهرِ اسم (الحق):
* فوجود الكون: علامة على أن اللهَ حقٌّ.
* وانتظامُ الكون واتساقُه، من أدقِّ تفاصيله إلى أعظَمِ أجرامه: علامة دالة على أن اللهَ حقٌّ.
* وتدبيرُ الكون وتقسيمُ الأرزاق والأقدار بين الخَلْقِ فيه: علامة دالة على أن الله حقٌّ.
ومَرجِع ذلك وغيرِه - مما يطول ذكرُه -: أن يقالَ: «ما مِن أثرٍ إلا وله مؤثِّرٌ»؛ كما اشتهر في قول الأعرابيِّ الذي سئل: كيف عرَفْتَ ربَّك؟ فقال بفِطْرته السليمة: «البَعْرةُ تدل على البعير، والأثرُ يدل على المسير؛ فسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فِجاج، وجبالٌ وبحار وأنهار؛ أفلا تدل على السميع البصير؟!». انظر: "ترجيح أساليب القرآن" لابن الوزير (ص83).
«فكما أنَّ ذاتَه الحَقُّ: فقولُه الحقُّ، ووعدُه الحق، وأمرُه الحق، وأفعاله كلُّها حقٌّ، وجزاؤه المستلزِم لشرعِه ودِينِه ولليوم الآخر حقٌّ.
فمَن أنكَر شيئًا من ذلك، فما وصَفَ اللهَ بأنه الحَقُّ المطلَق من كلِّ وجه، وبكلِّ اعتبار؛ فكونُه حقًّا يستلزم شَرْعَه ودِينَه، وثوابَه وعقابه». ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "بدائع الفوائد" (4 /139).
ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "نونية ابن القيِّم" (99-100).
فَالحَقُّ وَصْفُ الرَّبِّ وَهْوَ صِرَاطُهُ الْـ
هَادِي إِلَيْهِ لِصَاحِبِ الإِيمَانِ وَهُوَ الصِّرَاطُ عَلَيْهِ رَبُّ العَرْشِ أَيْـ
ـضًا ذَا وَذَا قَدْ جَاءَ فِي القُرْآنِ