العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
(الحليم) صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛ أي: حالم، وهي مِن الفعل (حلُمَ - يحلُمُ)، والمصدر منها: (الحِلْمُ)، وهي مختلفة عن (الحُلْمِ)، وهو ما يراه النائمُ في نومه، والفعل منها: (حلَمَ - يحلُمُ).
و(الحِلْمُ): هو ضبطُ النفسِ والطبع عن هيجانِ الغضب، وجمعه: أحلام؛ قال تعالى: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَٰمُهُم بِهَٰذَآۚ أَمْ هُمْ قَوْمٞ طَاغُونَ﴾ [الطور: 32]، قيل: معناه: عقولُهم، وليس (الحِلْمُ) في الحقيقة هو العقلَ، لكن فسَّروه بذلك؛ لكونه من مسبَّباتِ - يعني نتائج - العقل. انظر: "المفردات" للأصفهاني (ص129).
فـ(الحليم): هو مَن يَضبِط نفسَه، ولا يُعاجِل بالعقوبة مع قُدْرتِه عليها.
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى؛ معناه: أن اللهَ تعالى هو ذو الأناةِ، فلا يَعجَل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم. انظر: "تفسير الطبري" (5 /117).
وقال القُرْطبي: «هو ذو الصَّفْحِ والأناة، لا يستفِزُّه غضبٌ، ولا جهلُ جاهلٍ، ولا عصيانُ عاصٍ.
ولا يستحِقُّ الصافحُ مع العجزِ اسمَ (الحليم)؛ إنما (الحليم) هو الصَّفُوح مع القدرة، المتأنِّي، الذي لا يُعاجِل بالعقوبة... وكذلك لا يكون (الحليم) إلا حكيمًا واضعًا للأمور مواضعَها، عالمًا قادرًا؛ فإن لم يكُنْ قادرًا: كان حِلْمُه ملتبِّسًا بالعجزِ والوَهْنِ والضَّعف، وإن لم يكن عالمًا: كان تركُه الانتقامَ للجهل، وإن لم يكن حكيمًا: فربما كان حِلْمُه من السَّفَهِ». "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (1 /94-95).
ويصحُّ إطلاقُ وصفِ (الحليم) على غيرِ الله؛ كما وصف اللهُ تعالى نبيَّه إبراهيم ﷺ بقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٞ﴾ [التوبة: 114]، وقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ﴾ [هود: 75].
ما دلت عليه اللغةُ وما دل عليه الاصطلاحُ في معنى (الحِلْمِ) متفقانِ غيرُ مختلفين؛ فكلاهما يدل على خلافِ العجَلةِ، و(الحِلْمُ) ثابتٌ لله سبحانه وتعالى على وجهٍ يَليق به.
يدل اسمُ الله (الحليمُ) على إثباتِ صفة (الحِلْمِ) لله تعالى.
ورَد اسمُ الله (الحليم) في القرآنِ الكريم في (11) موضعًا؛ منها:
* قوله تعالى: ﴿إِنَّ اْللَّهَ يُمْسِكُ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ أَن تَزُولَاۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٖ مِّنۢ بَعْدِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا﴾ [فاطر: 41]. يقول ابنُ القيِّم: «فلولا حِلْمُه وكَرَمُه ومغفرته، لَمَا استقَرت السمواتُ والأرض في أماكنِها». "مفتاح دار السعادة" (2 /824).
* قوله تعالى: ﴿لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اْللَّهُ بِاْللَّغْوِ فِيٓ أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْۗ وَاْللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ﴾ [البقرة: 225]. قال البَيْضاويُّ في تفسير الآية: «حيث لم يَعجَلْ بالمؤاخَذة على يمينِ الجِدِّ تربُّصًا للتوبة». "أنوار التنزيل" (1 /140).
ورَد اسمُ الله (الحليمُ) في غير ما حديثِ عن النبيِّ ﷺ؛ من ذلك:
* عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان النبيُّ ﷺ يدعو عند الكَرْبِ، يقولُ: «لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السمواتِ والأرضِ ورَبُّ العرشِ العظيمِ». أخرجه البخاري (6345)، ومسلم (2730).
* عن يَعلَى بن أُميَّةَ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ رأى رجُلًا يغتسِلُ بالبَرَازِ، فصَعِدَ المِنبَرَ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، وقال: «إنَّ اللهَ عز وجل حليمٌ حَيِّيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحياءَ والسَّتْرَ؛ فإذا اغتسَلَ أحدُكم، فَلْيَستتِرْ». أخرجه النسائي (406).
اسمُ الله (الحليم) ثابتٌ بالإجماع؛ قال القُرْطبي: «وأجمعت عليه الأمَّةُ». "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (1 /93).
إنَّ أثرَ (حِلْمِ) الله على عباده هو تأخيرُ العقوبة أو رفعُها:
فأما رفعُها: فإنما يكون عن بعضِ عصاة الموحِّدين، وليس لغيرهم نصيبٌ منه؛ وهذا معلومٌ بالأدلة النَّقْلية، وبالإجماع.
وأما التأخير: فيُثبِته الحِسُّ والمشاهدة؛ لأننا نرى أهلَ الكفر والفُجر يكفُرون ويعصُون وهم مُعافَوْنَ يَتقلَّبون في نِعَمِ الله، على أن اللهَ قد توعَّدهم بالعقوبةِ والعذاب على أفعالهم، فيثبُتُ بالعقلِ (حِلْمُ) الله عليهم، وإنظارُه لهم في الدنيا؛ لعلَّهم يتوبون قبل أن يُنزِلَ اللهُ عذابَه بهم في الآخرة. وانظر: "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" للقرطبي (1 /97).
ثم إن (الحِلْمَ) متضمِّنٌ لـ(القدرة)، و(العلم)، و(الحِكْمة)، وهي ثابتةٌ لله تعالى بقياسِ الأَوْلى؛ لأنها جميعَها صفاتُ كمالٍ، وخلافُها صفاتُ نقصٍ، ومن المعلوم أن كلَّ كمالٍ لا نقصَ فيه يكون لبعضِ الموجودات المخلوقة المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أَوْلى به، وكلُّ نقصٍ أو عيب يجب أن يُنزَّهَ عنه بعضُ المخلوقات المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أَوْلى أن يُنزَّهَ عنه. انظر: "شرح الأصفهانية" لابن تيمية (ص74).
للإيمانِ باسم الله (الحليم) آثارٌ عظيمة في السلوك؛ منها:
* محبةُ الله عز وجل، والاستحياءُ منه أن يُعصَى المعصيةَ بعد المعصية، مع شهودِ (حِلْمِه)، وعدم معاجَلة المُذنِب المقصِّر بالعقوبة؛ فإن العبدَ عندما يؤمن باسمِ الله (الحليم) يَعلَم معه أنه لو عاجَله ربُّه بالعقوبة، لَمَا بَقِيتْ نِعَمُ الله - التي لا تُحصَى - واصلةً إليه، متتابِعة دون انقطاع، بل لو شاء أهلَكه بذنبِه وعصيانه؛ كما جاء في حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «ما أحدٌ أصبَرَ على أذًى يَسمَعُه مِن اللهِ تعالى؛ إنهم يَجعَلون له نِدًّا، ويَجعَلون له ولَدًا، وهو مع ذلك يرزُقُهم، ويُعافِيهم، ويُعطِيهم!». أخرجه مسلم (2804).
* (حِلْمُ) الله هو بابُ توبة العباد إلى الله عز وجل؛ فلولا أنه سبحانه (حليمٌ) يُمهِلُ عبدَه بعد ذنبِه، ما كانت له فرصةٌ كي يؤُوبَ إلى ربِّه، ويخرُجَ من ذنبه؛ فالإيمانُ باسمِ الله (الحليم) يَمنَح العبدَ الرجاء، وعدمَ اليأسِ والقُنوطِ من رحمة الله عز وجل، ولعلَّ هذا سببُ اقترانِ اسم الله (الحليم) باسم (الغفور) في أكثرَ من موضعٍ في كتاب الله.
* محاولةُ العبدِ التخلُّقَ بخُلُقِ (الحِلم)؛ لأن اللهَ تعبَّدَ عبادَه به، وكما يذكُرُ بعضُ أهل المعرفة: «أسماءُ الله كلُّها للتخلُّق، إلا اسمَ (الله)؛ فهو للتعلُّق دُونَ التخلُّق»، والله سبحانه (حليمٌ) يحب مِن عبادِه الحُلَماءَ، (كريم) يحب مِن عبادِه الكرماءَ، وقد أثنى اللهُ على نبيِّه إبراهيم عليه السلام بصفةِ (الحِلم)، فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ﴾ [هود: 75]، وعلى ولدِه إسماعيلَ عليه السلام، فقال: ﴿فَبَشَّرْنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ﴾ [الصافات: 101]، وجاء في حديثِ أشَجِّ عبدِ القيسِ قولُ النبيِّ ﷺ له: «إنَّ فيك خَصْلتَينِ يُحِبُّهما اللهُ ورسولُه: الحِلْمُ، والأناةُ». أخرجه مسلم (18).
* إن وجودَ الإنسان العاصي المُذنِب وبقاءه على قيدِ الحياة: مظهرٌ من مظاهرِ اسم الله (الحليم)؛ فإن ذنوبَ العباد سببٌ مستحِقٌّ لهلاكهم ولا بد، ولكنَّ الله (حليمٌ)! يقول اللهُ جل وعلا: ﴿إِنَّ اْللَّهَ يُمْسِكُ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ أَن تَزُولَاۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٖ مِّنۢ بَعْدِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا﴾ [فاطر: 41]؛ فلولا (حِلْمُ) الله عز وجل ومغفرتُه، لَزَالتا، لكنه أمسَكهما، وكانتا جديرتَينِ بأن تُهَدَّا هَدًّا؛ كما قال تعالى: ﴿تَكَادُ اْلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ اْلْأَرْضُ وَتَخِرُّ اْلْجِبَالُ هَدًّا 90 أَن دَعَوْاْ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٗا﴾ [مريم: 90-91]. انظر: "أنوار التنزيل" للبيضاوي (4 /261).
* ومِن مظاهرِ (حِلم) الله عز وجل عن خَلْقِه: أنه سبحانه لا يستجيب لمَن استعجَل عذابَه؛ كما كان فعلُ الكفار وقولُهم لأنبيائهم؛ يقول الله تعالى: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ اْلْحِسَابِ﴾ [ص: 16]، و(القِطُّ): بمعنى العذابِ؛ كما قال مجاهدٌ وقتادة. ويقول أيضًا: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِاْلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اْللَّهُ وَعْدَهُۥۚ﴾ [الحج: 47]، ولكنه تعالى يُمهِلهم؛ فعذابُهم موجودٌ مكتوب إلا أن يؤمِنوا. وكذلك لو كان هذا الاستعجالُ من المؤمنين بأن يَفتَحَ اللهُ بينهم وبين الكافرين؛ كما قال اللهُ عز وجل مخاطِبًا نبيَّه ﷺ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ﴾ [آل عمران: 128].
«﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اْللَّهُ اْلنَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَـْٔخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61]:﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اْللَّهُ﴾ عصاةَ بني آدمَ بمعاصيهم، ﴿مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا﴾؛ يعني: على الأرض، ﴿مِن دَآبَّةٖ﴾ تَدِبُّ عليها، ﴿وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ﴾؛ يقول: ولكن بحِلْمِه يؤخِّر هؤلاء الظَّلمةَ، فلا يُعاجِلهم بالعقوبة، ﴿إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ﴾؛ يقول: إلى وقتِهم الذي وقَّتَ لهم، ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾؛ يقول: فإذا جاء الوقتُ الذي وقَّتَ لهلاكِهم، ﴿لَا يَسْتَـْٔخِرُونَ﴾ عن الهلاكِ ﴿سَاعَةٗ﴾ فيُمهَلون، ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ قبله حتى يَستوفُوا آجالَهم».
ابن جَرير الطَّبَري "جامع البيان" (14 /259).
«فمِن الواجب على مَن عرَف أن ربَّه (حليمٌ) على مَن عصاه: أن يحلُمَ هو على مَن خالَف أمره؛ فذاك به أَوْلى؛ حتى يكون حليمًا، فينالَ من هذا الوصف بمقدارِ ما يَكسِر سَوْرةَ غضبه، ويَرفَعُ الانتقامَ عمَّن أساء إليه، بل يَتعوَّد الصفحَ حتى يعُودَ الحِلْمُ له سجيَّةً، وكما تحب أن يحلُمَ عنك مالِكُك، فاحلُمْ أنت عمَّن تَملِك؛ لأنك مُتعبَّدٌ بالحِلْمِ، مثابٌ عليه؛ قال تعالى: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثْلُهَاۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى اْللَّهِۚ﴾ [الشورى: 40]».
القُرْطُبي "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (1 /97-98).
«و(الحليمُ) الذي يُدِرُّ على خَلْقِه النِّعَمَ الظاهرة والباطنة مع مَعاصيهم، وكثرةِ زَلَّاتهم، فيحلُمُ عن مقابَلة العاصِين بعصيانهم، ويستعتِبُهم كي يتُوبوا، ويُمهِلُهم كي يُنِيبوا».
ابن سَعْدي "تفسير السعدي" (1 /948).
ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "نونية ابن القيم" (ص: 717).
وَهُوَ الحَلِيمُ فَلَا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ
بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ