السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
(الحكيم) صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أو (مُفعِل)؛ أي: حاكم أو مُحكِم، والمادة اللُّغوية (حكم) لها معنًى أصلي واحد تدور حولَه مشتقاتُها؛ قال ابنُ فارس: «(حكم): الحاء والكاف والميم: أصل واحد، وهو المنعُ. وأول ذلك: الحُكْمُ، وهو: المنعُ من الظُّلم. وسُمِّيت حَكَمة الدَّابة؛ لأنها تَمنَعها، يقال: حَكَمْتُ الدابَّة وأحكَمْتُها. ويقال: حَكَمْتُ السفيهَ وأحكَمْتُه: إذا أخذتَ على يديه. قال جريرٌ:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ | إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا |
والحِكْمةُ هذا قياسها؛ لأنها تَمنَع من الجهل». "المقاييس" (2 /91).
والحاكمُ: هو القاضي؛ لأنه يَمنَع مِن غير المَقْضيِّ به، أو لأنه يَمنَع المتخاصِمين من التظالم، والمُحكِم: هو المُتقِن للأشياء؛ لأنه يَمنَع وجودَ الخَلَل.
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ تعالى يُحكِم صُنْعَ الأشياء ويُتقِنها، ويُحسِن التدبيرَ لها، لا يَفعَل ولا يقول إلا الصواب. انظر: "شأن الدعاء" للخطابي (ص73).
فيظهر من هذا التعريفِ: أنَّ لاسمِ (الحكيم) معنيينِ:
الأول: متعلِّق بخَلْقِ الله؛ لأنه سبحانه أتقَن الخَلْقَ وأحكَمه؛ كما قال تعالى: ﴿صُنْعَ اْللَّهِ اْلَّذِيٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍۚ﴾ [النمل: 88].
والثاني: متعلِّق بأمره؛ لأنه سبحانه لا يدخُلُ تدبيرَه خَلَلٌ ولا زَلَل. انظر: "تفسير الطبري" (1 /436).
إنَّ ما دلت عليه اللغةُ في الأصلِ الجامع لمعنى (حكم) يدل على ما اصطُلِح عليه في معنى اسم اللهِ (الحكيم)، وهو: الإتقانُ، وحُسْنُ التدبير.
يدل اسمُ (الحكيم) على إثباتِ صفتَيِ (الإحكام) و(الحِكْمة) لله تعالى.
ورَد اسمُ الله (الحكيمُ) في الكتاب العزيز (91) مرَّة، جاء في كلِّ مرة مقترنًا باسمٍ آخرَ من أسمائه سبحانه وتعالى:
* منها: اسمُ الله (العزيزُ)، وكثيرًا ما يَرِدُ اسمُ الله (الحكيم) مقترنًا به، تاليًا له، وذلك فيما يقرُبُ من (50) موضعًا؛ منها: قوله تعالى: ﴿تَنزِيلُ اْلْكِتَٰبِ مِنَ اْللَّهِ اْلْعَزِيزِ اْلْحَكِيمِ﴾ [الزمر: 1]، ووجهُ تقدُّم اسمه (العزيز) هو أن اللهَ عَزَّ، فلما عَزَّ حكَم، وربما كان هذا من تقديمِ السبب على المسبَّب. انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (1 /59).
ومِن لطائفِ ما يُذكَر في هذا الاقتران: ما ذكَره الرازيُّ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاْلسَّارِقُ وَاْلسَّارِقَةُ فَاْقْطَعُوٓاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [المائدة: 38]، قال: «فالمعنى: عزيزٌ في انتقامِه، حكيمٌ في شرائعِه وتكاليفه، قال الأصمَعيُّ: كنتُ أقرأ سورةَ المائدة ومعي أعرابيٌّ، فقرأتُ هذه الآيةَ، فقلتُ: (والله غفور رحيم) سهوًا، فقال الأعرابيُّ: كلامُ مَن هذا؟ فقلتُ: كلامُ الله، قال: أعِدْ! فأعَدتُّ: (والله غفور رحيم)، ثم تنبَّهْتُ، فقلتُ: ﴿وَاْللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾، فقال الأعرابيُّ: الآنَ أصَبْتَ، فقلت: كيف عرَفْتَ؟! قال: يا هذا، عزيزٌ حكيم فأمَر بالقطع». "التفسير الكبير" (11 /181).
* ومنها: اسمُ (العليم)، جاء اسمُ (الحكيم) مقترنًا به في نحو (37) موضعًا، أكثرُها جاء بتقديم (العليم) على (الحكيم)؛ كقوله تعالى: ﴿قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32]، وبعضُها بالعكس؛ كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اْلَّذِي فِي اْلسَّمَآءِ إِلَٰهٞ وَفِي اْلْأَرْضِ إِلَٰهٞۚ وَهُوَ اْلْحَكِيمُ اْلْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 84]، وفي هذا يقول ابنُ القيِّم: «وكذلك العلمُ؛ كمالُه أن تقترِنَ به الحِكْمةُ، وإلا فالعالِمُ الذي لا يريد ما تقتضيه الحِكْمةُ وتوجِبُه، بل يريد ما يهواه: سفيهٌ غاوٍ، وعِلْمُه عونٌ له على الشرِّ والفساد... والمقصود: أن العلمَ والقدرة المجرَّدَينِ عن الحِكْمةِ لا يحصُلُ بهما الكمالُ والصلاح، وإنما يحصل ذلك بالحِكْمةِ معهما، واسمُه سبحانه (الحكيمُ) يَتضمَّن حِكْمتَه في خَلْقِه، وأمرَه في إرادته الدِّينية والكونية، وهو حكيمٌ في كلِّ ما خلَقه، حكيمٌ في كلِّ أمَر به». "طريق الهجرتين" (ص233-234).
* واقترَن بأسماءٍ أخرى في مواضعَ كثيرة؛ منها:
- قوله تعالى: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اْللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ اْللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمٗا﴾ [النساء: 130].
- وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ بِاْلْحَقِّۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوْلُهُ اْلْحَقُّۚ وَلَهُ اْلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي اْلصُّورِۚ عَٰلِمُ اْلْغَيْبِ وَاْلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ اْلْحَكِيمُ اْلْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 73].
- وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اْللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ﴾ [الشورى: 51].
* جاء اسمُ الله (الحكيمُ) في حديثِ سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: «جاءَ أعرابيٌّ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال: عَلِّمْني كلامًا أقولُه، قال: «قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، اللهُ أكبَرُ كبيرًا، والحمدُ للهِ كثيرًا، سُبْحانَ اللهِ رَبِّ العالَمِينَ، لا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ العزيزِ الحكيمِ»، قال: فهؤلاء لرَبِّي، فما لي؟ قال: «قل: اللهمَّ اغفِرْ لي، وارحَمْني، واهدِني، وارزُقْني»». أخرجه مسلم (2696).
يُثبِت العقلُ حِكْمةَ اللهِ بقياس الأولى؛ فـ(الحِكْمةُ) صفةُ كمال، وخلافُها صفةُ نقص، ومن المعلوم أن كلَّ كمالٍ لا نقصَ فيه يكون لبعضِ الموجودات المخلوقة المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أَوْلى به، وكلُّ نقصٍ أو عيب يجب أن يُنزَّهَ عنه بعضُ المخلوقات المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أَوْلى أن يُنزَّهَ عنه. انظر: "شرح الأصفهانية" لابن تيمية (ص74).
مَن آمَن باسمِ الله (الحكيم)، تحصَّل على آثارٍ إيمانية وسلوكية عظيمة؛ منها:
* التسليمُ لله عز وجل؛ لأنه يعلم أن الحُكْمَ للهِ، لا لغيره؛ قال الشِّنْقيطيُّ: «وبذلك تَعلَم أن الحلالَ هو ما أحَلَّه الله، والحرام هو ما حرَّمه الله، والدِّين هو ما شرَعه الله؛ فكلُّ تشريعٍ من غيره باطلٌ، والعملُ به بدَلَ تشريعِ الله عند مَن يعتقد أنه مثلُه أو خيرٌ منه: كُفْرٌ بَوَاحٌ لا نزاعَ فيه». "أضواء البيان" (7 /162). وقد أمَر اللهُ عز وجل بذلك، فقال: ﴿فَاْحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُۖ﴾ [المائدة: 48].
* الرِّضا بأقدارِ الله عز وجل، والصبرِ على ما أراده وقضى به؛ لِما يَعلَم من حِكْمة الله فيه.
* اليقينُ بأنَّ الله خلَق خَلْقَه لحِكْمة، لم يكُ ذلك لَعِبًا - حاشا لله - ولا عَبَثًا؛ فاللهُ يخاطب أهلَ التكذيب موبِّخًا لهم، فيقول: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثٗا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، فيَحمِل ذلك العبدَ على أن يسعى في تحقيقِ الغاية من خَلْقِه ووجوده، وهي عبادته سبحانه؛ قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ اْلْجِنَّ وَاْلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ولا يُضيِّعَ وقتَه في ملذَّات الدنيا الفانية، بل يستثمِرُه، ويَتزوَّد فيه من صالحِ الأعمال ما يَلقَى به ربَّه يوم القيامة وهو راضٍ عنه.
* إن مظاهرَ اسمِه تعالى (الحكيم) بمعنى (المُحكِم) كثيرةٌ جدًّا بكثرة الخَلْقِ؛ لأن كلَّ ما أوجَده اللهُ مُتقَنٌ أتمَّ الإتقان، لا خلَلَ فيه ولا قصور ولا تفاوُتَ؛ كما قال تعالى: ﴿اْلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗاۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ اْلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ﴾ [الملك: 3]؛ أي: خلَقهن طبقةً بعد طبقة، مستوياتٍ، ليس فيهن اختلافٌ ولا تنافر، ولا نقصٌ ولا عيب، وكما قال سبحانه: ﴿صُنْعَ اْللَّهِ اْلَّذِيٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍۚ﴾ [النمل: 88].
* ومِن مظاهرِ اسم الله (الحكيم) بمعنى (الحاكم): أن تشريعاتِ الله عز وجل للعباد كثيرةٌ مفصَّلة، تَفِي بحاجات الخَلْقِ في حياتهم اليومية، وأمورِ مَعاشهم؛ كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدٗى وَرَحْمَةٗ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 52]، وقال سبحانه: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي اْلْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖۚ﴾ [الأنعام: 38]، وهذا يَجعَلها الأحرى بالتقديم على غيرِها في التحاكم، وما ذلك إلا لأن اللهَ عز وجل هو خالِقُ الخَلق؛ فهو الأعلَمُ بما يصلُحُ لهم، ويَلِيق بهم؛ كما يقول جل وعلا: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اْللَّطِيفُ اْلْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]؛ فتفصيلُ أحكامِ الله وتشريعاته لخَلْقِه وشمولُها لمختلِفِ جوانبِ الحياة: جعَلها أهلًا للاحتكام إليها دُونَ ما سِواها؛ فكان ذلك مظهرًا من مظاهرِ اسمه (الحكيم).
«أنه سبحانه حكيمٌ، لا يفعل شيئًا عَبَثًا، ولا لغيرِ معنًى ومصلحةٍ وحِكْمة هي الغايةُ المقصودة بالفعل؛ بل أفعالُه سبحانه صادرةٌ عن حِكْمة بالغة لأجلِها فُعِل، كما هي ناشئةٌ عن أسباب بها فُعِل، وقد دل كلامُه وكلامُ رسوله على هذا وهذا في مواضعَ لا تكاد تُحصى، ولا سبيلَ إلى استيعاب أفرادها».
ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "شفاء العليل" (ص190).
«هو المُحكِم لخَلْقِ الأشياء، وقد يكون بمعنى المُصِيبِ في أفعاله».
البَيْهَقِي "الاعتقاد" (ص53).
«ومعناه: الذي لا يقولُ ولا يفعل إلا الصوابَ، وإنما ينبغي أن يوصَفَ بذلك؛ لأن أفعالَه سديدةٌ، وصُنْعَه مُتقَن، ولا يَظهَر الفعلُ المُتقَن السديد إلا مِن حكيمٍ، كما لا يَظهَر الفعلُ على وجهِ الاختيار إلا مِن حيٍّ عالِم قدير».
الحَلِيمي "المنهاج في شعب الإيمان" (1 /191-192).